الحمد لله رب العالمين إله الأولين والآخرين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين
وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
يقول ربنا تبارك وتعالى :
( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا )
هذه الآية تضع منهجا قويماً في فض النزاعات التي تقع بين المسلمين ، وذلك برد ما وقع فيه التنازع إلى الله ـ أي إلى كتابه ـ وإلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته ، وإلى سنته الصحيحة بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -.
وقد وقع نزاع بين بعض المسلمين حول مسألة فقهية تُعدُّ من أعظم القربات ؛
في شهر رمضان المبارك عند المسلمين اليوم ؛
ألا وهي صلاة التراويح التي هي قيام الليل
والتي مَن قامها إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ؛
والخلاف الذي وقع فيها يتعلق بالعدد الذي تصلى فيه
ـ عشرين ركعة أو إحدى عشرة ركعة ـ
لا في أصل مشروعيتها ،
ولما كانت هذه الصلاة عبادة من العبادات وقربة من القرب كان لزاماً أن لا يثبت شيئا منها إلا بدليل ونص، كما قرر العلماء
" أن الأصل في العبادات التحريم والمنع "
بمعنى أنه لا يثبت شيئاً منها ولا يتقرب به إلى الله -جل وعلا - إلا إذا دلَّ الدليل عليها ، وانطلاقاً من الآية السالفة الذكر والتي مَن طبقها وعمل بمقتضاها قطع دابر النزاع وأحل محله الوفاق وجمع القلوب على السنة النبوية ،
رجعنا إلى نصوص الكتاب والسنة الصحيحة فيما يتعلق بعدد ركعات صلاة التراويح ،
فوجدنا أنَّ النصوص التي نقلت عنه - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه الكرام تدل دلالة واضحة على أنها إحدى عشرة ركعة لا غير ،
وكل ما روي زائداً على هذا العدد فهو إما ضعيف السند أو شاذ لا تقوم به الحجة.
وإليك أخي المتبع لصحيح السنة تلك النصوص الدالة على ما ذكرنا:
1. عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه
فسمى صلاة التراويح بقيام الليل ، وفي هذا ردٌ على من فرق بينهما ،
وسيأتي ما يبين ذلك من كلام ابن العربي رحمه الله تعالى.
2. وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ثم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فلما أصبح قال قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم وذلك في رمضان. رواه البخاري : 1 / 380.
ولم تذكر عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث عدد الركعات
إلا أن الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - قال :
" ولم أر في شيء من طرقه بيان عدد صلاته في تلك الليالي لكن روى ابن خزيمة وابن حبان من حديث جابر قال صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
في رمضان ثمان ركعات ثم أوتر … الحديث " فتح الباري : 3 / 12.
ويشهد لهذا العدد ما رواه البخاري 2 / 780 عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة -رضي الله عنها -كيف كانت صلاة رسول - صلى الله عليه وسلم -
في رمضان فقالت ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة
يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن.
3. ما رواه الإمام مالك بسند صحيح: 1 / 105 عن السائب بن يزيد أنه قال :
( أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما بإحدى عشرة ركعة ).
4. عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال : خرجت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس قارئهم قال عمر نعمة البدعة ..) صحيح البخاري 2 / 707.
لكن عبد الرحمن بن القارئ لم يبين عدد الركعات التي جمع عمر الناس عليها
إلا أن الإمام مالك روى بيان ذلك فقد روى ( 1 / 105 )
عن السائب بن يزيد أنه قال : ( أمر عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس باحدى عشرة ركعة … ).
وبهذا يتبين لك أخي المتبع للحبيب المصطفى وصحابته البررة ،
أن عدد ركعات قيام رمضان ( التراويح )إحدى عشرة ركعة لا غير ،
وزاد ذلك تأكيداً جمعُ الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الناس على هذا العدد
وليس في الصحابة أو التابعين من أنكر عليه.
فتعين أن هذا العدد ـ إحدى عشرة ركعة ـ هو الأولى والأحرى أن يُتمسك به ويُعض عليه بالنواجذ ، بل هو الذي يجب أن يُصار إليه ويعمل به ولا يلتفت إلى سواه لأنه وحده هو السنة الثابتة عن النبي- صلى الله عليه وسلم - والصحابة أجمعين - رضي الله عنهم - ،
والتي لم يثبت عنهم سواها ؛ وما زاد عليها فهو ضعيف بنص كلام العلماء كما يأتي ،
وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها.
وإليك أخي الحبيب بيان من أنكر تلك الزيادة في عدد ركعات صلاة التراويح على إحدى عشرة ركعة ؛ لتكون على بينة من الأمر :
قال السيوطي في المصابيح في صلاة التراويح من الفتاوى 2 / 77 ما نصه ( وقال الحموي ـ من أصحابنا ـ عن مالك أن قال : الذي جمع عليه الناس عمر بن الخطاب أحب إليَّ وهو إحدى عشرة ركعة وهي صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قيل له عشرة ركعة بالوتر ؟
قال : نعم ، وثلاثة عشرة قريب ، قال : ولا أدري من أين أحدث هذا الركوع الكثير ).
وقال ابن العربي في شرح الترمذي 4 / 19 ( والصحيح أن يصلى إحدى عشرة ركعة صلاة النبي- صلى الله عليه وسلم -وقيامه ،
فأما غير ذلك من الأعداد فلا أصل له ولا حد فيه ، فإذا لم يكن من بد من الحد فما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي ، مازاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة ، وهذه صلاته هي قيام الليل فوجب أن يقتدى فيها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ).
وقال الصنعاني في سبل السلام 2 / 10ـ 11.
"وأما الكمية وهي جعلها عشرين ركعة فليس فيه حديث مرفوع إلا ما رواه عبد بن حميد والطبراني من طريق أبي شيبة إبراهيم بن عثمان عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كان يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر قال في سبل الرشاد أبو شيبة ضعفه أحمد وابن معين والبخاري ومسلم وداود والترمذي والنسائي وغيرهم وكذبه شعبة وقال ابن معين ليس بثقة وعد هذا الحديث من منكراته .
وقال الأذرعي في المتوسط وأما ما نقل أنه صلى في الليلتين اللتين خرج فيهما عشرين ركعة فهو منكر ، وقال الزركشي في الخادم دعوى أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم في تلك الليلة عشرين ركعة لم تصح بل الثابت في الصحيح الصلاة ذكر بالعداد ولما في رواية جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم ثمان ركعات والوتر
ثم قال الصنعاني بعد نقله لكلام العلماء السابق : ( إذا عرفت هذا علمت أنه ليس في العشرين رواية مرفوعة بل يأتي حديث عائشة المتفق عليه قريبا أنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة فعرفت من هذا كله أن صلاة التراويح على هذا الأسلوب الذي اتفق عليه الأكثر بدعة ).
وقال " فليس في البدعة ما يمدح بل كل بدعة ضلالة.
v أما حديث " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر )
فقال عنه ابن حجر في الفتح 4 / 254 : إسناده ضعيف وقد عارضه حديث عائشة هذا الذي في الصحيحين مع كونها أعلم بحال النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلا من غيرها )
v وأما حديث يزيد بن رومان قال (كان الناس يقومون في زمان عمر في رمضان بثلاث وعشرين ركعة ) فقال البيهقي في السنن ( يزيد لم يدرك عمر )
وكذلك قال الزيلعي وقال الإمام النووي في المجموع ( مرسل )
وقال العيني في شرح البخاري ( منقطع ) فهذه نصوص العلماء في تضعيفه .
ونختم كلامنا هذا بقول إمام أهل الحديث والسنة بلا منازع في العصر الحاضر الشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى :بعد أن ذكر ما روي عن الصحابة - رضي الله عنهم - في الزيادة على إحدى عشرة ركعة في صلاة التراويح :
( هذا كل ما وقفنا عليه من الآثار المروية عن الصحابة - رضي الله عنهم - في الزيادة على ما ثبت في السنة في عدد ركعات التراويح وكلها ضعيفة لا يثبت منها شيء ،
وقد أشار الترمذي إلى تضعيفها …… والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ).
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
------